الأزمة الخليجية بمنظار إنساني
مقال منشور في صحيفة "لودوفوار" الكندية – يوم 20/07/2017
بقلم: فهد محمد كافود – سفير دولة قطر لدى كندا
بين عشية وضحاها قررت ثلاث دول خليجية )السعودية، الإمارات والبحرين) ومعها مصر شن حرب دبلوماسية واقتصادية وإعلامية على دولة جارة وشريكة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يتعرض اليوم لهزة عنيفة لم يشهد مثلها منذ تأسيسه قبل ٣٦ عاما. الثلاثة ذهبوا أيضا إلى دول أخرى بعيدة عن المنطقة وتفاعلاتها لجرها إلى التضامن معهم ودفعها إلى قطع علاقاتها مع قطر مستعملين في ذلك شتى أدوات الترغيب والترهيب. ماذا فعلت هذه الدول غير أنها خلقت من تلقاء نفسها بؤرة توتر جديدة في المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات وحمّلت دبلوماسيات الدول الكبرى عبئا آخر من شأنه أن يشتت الاهتمام الدولي بالقضايا الكبرى والمصيرية التي يشهدها العالم.
هل تحتاج منطقة الخليج والشرق الأوسط عموما إلى أزمة تضاف إلى الأزمات الأزلية والحديثة التي تعرفها ولم يجد لها المجتمع الدولي حلولا جذرية؟ مجلس التعاون الخليجي كان مضرب مثل في الاستقرار ودوره مطلوب في المساهمة في الحفاظ على الأمن الإقليمي والسلم العالمي، لكن "دول الحِصار" كان لها رأي آخر في الموضوع. فهي أرادت أن تعبث ليس فقط باستقرار المنطقة، بل أن تثير فوضى تخلخل بها أوصال المجتمع الخليجي جملة واحدة، وتخلق فتنة بين شعوب المنطقة إضافة إلى التعدي على أهم حقوقهم الأساسية كبشر أولا ثم كمواطنين أو مقيمين في هذه الدول.
قطع الروابط العائلية
الذين عرفوا أو عاشوا في منطقة الخليج يعرفون جيدا التركيبة السكانية والمجتمعية لدول المجلس الست وهم يدركون بلا شك الآثار الوخيمة التي تتسبب فيها قرارات مثل تلك الصادرة عن "دول الحِصار" على شعوب المنطقة بأكملها وليس على قطر لوحدها. فالنسيج العائلي في الدول الخليجية متشابك مترابط حيث نجد العائلة أو القبيلة الواحدة منتشرة عبر أكثر من دولة، وآباؤنا وقادتنا الذين فكروا في إنشاء مجلس التعاون إنما فعلوا ذلك من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع الخليجي وجعل هذا التماسك حافزا للسياسيين من أجل البقاء متحدين ومتعاونين بغض النظر عن أي خلاف قد يطرأ هنا أو هناك. لكن الذين حدث هو أن سلطات "دول الحِصار" قررت قطع هذا النسيج وإدخال مواطني المنطقة في حيرة وتوتر.
عندما أتحدث عن التشابك والترابط العائلي داخل المجتمع الخليجي فإنني أقصد بذلك أيضا التزاوج بين مواطني البلدان الست، وعندما يصدر قرار بطرد القطريين من هذه البلدان وأمر مواطني هذه البلدان بمغادرة قطر فإن ذلك يعني بالتَّـبَـع تشتت أعداد كبيرة من العائلات، وهو ما حصل فعلا للأسف الشديد، حيث وجد أطفال هذه العائلات أنفسهم أمام ما يشبه "حالات طلاق" إجبارية، وعليهم إن كانوا يحملون الجنسية القطرية أن يغادروا تلك البلدان الثلاث مع واحد من أوليائهم فقط وإن كانوا من جنسية "دول الحِصار" أن يغادروا قطر محرومين من أبيهم أو أمهم.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل ما انجرّ عن ذلك أعقد بكثير، حيث أن مغادرة كل مواطن خليجي للبلد الذي يقيم فيه بسبب هذه الإجراءات معناه أنه سيفقد وظيفة وحياة مستقرة، إضافة إلى أن الأم أو الأب الذي انفصلت عنه عائلته لن يجد سبيلا للإنفاق على عائلته لأن سلطات "دول الحِصار" قررت أيضا أن تمنع أي تحويلات مالية من قطر أو إليها، تماما مثلما أوقفت كلّ الخدمات البريدية والمعاملات التجارية الأخرى.
هنالك أيضا مئات الطلبة الذين أجبرتهم قرارات "دول الحِصار" على التوقف عن الدراسة رغم أن كثيرا منهم كانوا على أهبة التقدم لامتحانات آخر السنة أو ربما التخرج، لكنهم أجبروا على المغادرة دون أية مراعاة لحالاتهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة القطرية رفضت منذ البداية تطبيق مثل هذه المعاملات اللاإنسانية على مواطني "دول الحِصار" المقيمين أو العاملين لديها، بل سمحت لهم بالبقاء كيفما شاءوا والاستمرار في وظائفهم.
نفس الضرر لحق بالمستثمرين القطريين على الخصوص الذين يملكون عقارات أو مزارع في السعودية أو الإمارات على وجه الخصوص، حيث وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى المغادرة وترك ما يملكون هناك وهم حاليا غير قادرين على استرجاع مواشيهم ولا حتى على الاطمئنان على حياتها بعد أن انقطع عنها أصحابها، إضافة إلى عشرات أو ربما مئات العاملين الأجانب الذين لا يجد أرباب عملهم القطريون سبيلا إلى تجديد تأشيرات إقامتهم في تلك البلدان في ظل الحصار المضروب عليهم.
حتى الموتى لم يسلموا من هذه "الحرب" المفروضة على قطر، فكم من عائلة قطرية صادف أن توفي لها أحد أقربائها في إحدى هذه الدول لكنها وجدت نفسها في حالة عجز تام، فلا هي قادرة على جلب جثمان فقيدها من هذه الدول لأنها صارت في قائمة الأشخاص غير المرغوب فيهم، ولا مسموح لها بالسفر لحضور مراسم دفنه هناك.
إن قطر مهما ظهرت متسامحة ومصرّة على جلوس جميع الأطراف إلى طاولة الحوار الجاد، إلا أنها لن ترضى أن يتعرض مواطنوها ولا سيادتها لأي أذى. من أجل ذلك فإنها بادرت، بعد إصرار "المحاصِرين" على الاستمرار في خطئهم، إلى تشكيل لجنة للمطالبة بالتعويضات عن الأضرار، كما أن اللجنة القطرية لحقوق الإنسان تعاقدت مع مكتب دولي للمحاماة للتكفل بملفات ضحايا الحِصار من القطريين والمقيمين وكذا مواطني الدول المحاصِرة الذين هم ليسوا أقل تضررا.
***